رسالة إليك ..
ياسيدي لازلت أحتفظ بالمرساة معي , فالرحيل قدري وشواطيء الدنيا مواقفٌ
لانتظاري , وهذه المدن التي تتراقص أنوارها ليلاً , مرافيء فراق سرتُ على أرصفتها ,
وتنسمت عطر صباحها وتوسدت حكايات مسائها .
تركت في زوايا جدرانها أوراق
طفولتي , ونقشت على جذوع أشجارها أحلامي .
ودعتُ فوق أرضها أحبة اختارتهم السماء ليرحلوا تاركين أوشحة سوداء
قاتمة ترفُّ في حنايا القلب بلا نسيان ....
على شرفات بيوتها توالت فصول
الحياة ومرَّت على طرقاتها أيام وأعوام الزمان , ومررت أنا في تاريخها غريبة ,
يلفني الصمت , ويهرب مني الأمان , تطوي عربة رحيلي آراضٍ وبحار وأنا أُمسك بمرساتي
كما تمسك أُمُ بطفلها كي لايضيع في عاصفة الغضب والظلام , وكما يمسك الغريق ببقايا
سفينة محطمة وسط بحار الصبر المريرة ,لأُلقيها يوماً على شاطيء وطنٍ سلبوه كما
سلبوا الماء من الحياة , وكما سلبوا الروح من أجساد الضعفاء الأبرياء بلا رحمة
وجعلوا من مأساتهم للشّر قربان ...
كم حلمتُ أن أحيا في زمنٍ يشبه زمن الرشيد رفاهية وصلاح الدين كرامة
وابن الخطاب عدالةً والراشدين أمناً وأماناً والأمويين عزاً والعباسيين مجداً !!
كم أقنعتُ نفسي أنّ العودة قريبة وأنّ السلام حقيقة وأنّ النصر قادم وأنّ
الحرية سترف فوق بيادر وطننا وحقوله ومدنه التي حاصرتها ذئاب استقدموها من أقبية
الرعب !!
لم أعلم أنّ بين الأحلام والقناعات هناك قدر كان يخبيء خلف ردائه لنا
الكثير من الصدمات والدمار , قدر أعاد همجية المغول والتتر لزماننا بصورٍ وأسماء
مختلفة , همجية اغتالت الأحلام والقناعات وماتبقى من جمال في هذا العالم , أطاحت
بالمحبة والبراءة وبالحضارات والقيم وحطمت صروح الأماني والذكريات الجميلة .
لم أعد أحلم بالكثير ولم أعد أُصدق الكثير فمأساة الأوطان والوجود
والحياة أعظم من كل أحلامنا وأمانينا وقناعاتنا التي حولها زمن الأطماع واللامعقول
إلى قطع زجاج هشة لاتحتمل كل هذا الفزع من حولها .
هذا هو حال القدر والزمن
والوطن والإنسان في عصر يحكمه الشيطان , فهل سأعود لانتظارٍ أكبر ؟ أم إلى رحلات
رحيل أطول ؟ فصفحات التاريخ في أيامنا هذه مضرجة بالعار والأوطان دُفنت تحت رماد
الموت وعلا وجوه الناس اليأس وعيون الثكالى الدمع وعيون الحقيقة الغبار !!!!
مع كل مايجري ياسيدي لازلت أحتفظ بمرساتي في يدي , رغماً عن البحار المتلاطمة والسفن التي تتأرجح تائهة ضائعة وسط
ضباب يخفي وراءه الكثير من المفاجآت , أتشبتُ بها لعلني أصطدم
يوماً خلال رحلتي بمرفأ وطني فأرسو على رماله فلاعزة إلا به ولو كان ترابه يحترق
ولاكرامة إلا فيه ولو كانت حجارته تشتعل فحرائقه
لن تنطفيء إلا بأيدينا نحن الذين كابدنا نيران الرحيل والاغتراب والشوق إلى من غابوا عنا وبقينا من دونهم نتجرع سم الوحدة والفراق القاتل .